وعندما كانت الدولة – أفريقيا الوسطي تستعد لاستقبال زوارها من كافة أنحاء العالم من رؤساء ودبلوماسيين ورجال الأعمال المشهورين على مستوي العالم بالعاصمة بانجى ،
كان بوكاسا رجل قصير القامة دميم قبيح المظهر صاحب الملامح المتهجمة والقوام المكتنز أراد حفل تتويج يضاهي حفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية بفخامتها.
واستعد بوكاسا للتحضيرات والترتيبات لهذا الحفل منذ عده أسابيع بأوامر لحراس السجن الرئيسي في العاصمة بانجى وتتلخص هذه الأمور في اختيار مجموعة من المعتقلين الأصحاء ذوى الأجساد الممتلئة ونقلهم غلى أماكن أخرى جيدة التهوية وتقديم وجبات مضاعفة لهم بالإضافة إلى وعدهم بإطلاق سراحهم ضمن عفو شامل بمناسبة وحفل التتويج .
وقبل أسبوع واحد من الحفل قدمت الحكومة الفرنسية والرئيس فاليرى جيسكار ديستان قرضا سخيا للإمبراطور بوكاسا بقيمة مليون جنيه استرلينيى لشراء أسطول من سيارات ليموزين لضيوفه إضافة إلى أسطول آخر من الدرجات البخارية لزوم الموكب الإمبراطوري والتي بلغ عددها مائتي دراجة بخارية جديدة طراز " bmw " .
ألا أن ذلك لم يكن يعني الكثير لبوكاسا الذي كان عمره آنذاك 58 عاما والذي خطط لإنفاق ما يساوي عشرة ملايين جنيه إسترليني خلال 24 ساعة والتي هي عمر ومدة التتويج.
نبين هنا أن لإفريقيا الوسطي تعد واحدة من أفقر بلاد العالم حيث لا يزيد عدد الذين يقرؤون ويكتبون – بالكاد – عن حوالي عشرة بالمائة من السكان ومن ذلك أن ربع الأطفال كانوا يموتون بفعل المرض وسوء التغذية قبل إتمام عيد ميلادهم الأول ..
ورغم كل هذا لم يتخل بوكاسا يوما عن فكرته المجنونة في أن يكون نابليون بونابرت إفريقيا حتى أعاد تسمية بلاده لتصبح إمبراطورية إفريقيا الوسطى ومع كل الاستعدادات للحفل الأسطوري فإن عددا من كبار القادة السياسيين في العالم لم يستطيعوا تقبل الفكرة المجنونة لبوكاسا وكان مصير العديد من بطاقات الدعوة المطلية بالذهب الخالص الرفض والاعتذار عن عدم الحضور بصورة مهينة لدرجة أن وزارة الخارجية البريطانية التي عرف عنها استخدام الأسلوب المهذب في المخاطبات الدبلوماسية ردت بعنف ووقاحة على دعوة بوكاسا.
أما الرئيس الأمريكي جيمي كارتر الذي أغضبه تشبه بوكاسا نابليون بونابرت فلم يكتف بمجرد الرفض بل زاد بقطع كل المساعدات عن إفريقيا الوسطي .
ولم يؤثر كل هذا في استعدادات بوكاسا للحفل الإمبراطوري واحتشد عشرات من أفراد جيشه ببدلات عسكرية مضحكة في استعراض عسكري على طول الطريق وهو الوحيد الممهد بمدينة بانجى ويبلغ طوله ميلين فقط ومر الموكب الإمبراطور بوكاسا الذي كان يجلس منتفخا مزهوا بنفسه وهو يرتدى طيلسانه المرصع بالماس والتاج الإمبراطوري فوق رأسه ممسكا بيده صولجانه الشهير حتى وصل إلى قصره الفخم في ضاحية بيرنجو وفي حديقة القصر الذي كان محاطا بحوائط زجاجية مضادة للرصاص كانت جموع المدعوين من الدبلوماسيين الفرنسيين والأفارقة وعدد من رجال الأعمال الإيطاليين والألمان مشغولة بتناول ما لذ وطاب من الطعام الشهي المقدم لهم على أطباق صينى " ليموج " ذات ألوان ذهبية وبيضاء استوردها القصر خصيصا من المصنع الرئيسي في فرنسا .
وفور الانتهاء من المأدبة الإمبراطورية الشهية حدثت المفاجأة التي صدمت الجميع وأصابتهم بالغثيان ... فلم تكن هذه الأطباق الشهية سوى لحوم أولئك السجناء الذين أخرجهم بوكاسا من سجن بانجى وأمر برعايتهم ومضاعفة طعامهم طوال الأسابيع الماضية على حفل التتويج والذين كانوا في انتظار العفو.
ومع مرور الأيام غرق بوكاسا في أوهام جنون العظمة وأصبح يتصرف وكأنه إمبراطور حقيقي لدولة عظمى وبدأت الأقاويل تتردد والشائعات تتطاير عن جرائمه البشعة التي يرتكبها يوميا ضد شعبه لإرضاء شهوته المجنونة للسلطة ومن ثم أصبح حالة تثير الضجر في باريس بعد أن تحول إلى كائن متعطش للدماء يشكل خطرا على نفسه وغيره ومع تطلعه الدائم لفرنسا وباريس أراد أن يحول العاصمة بانجى إلى قطعة من باريس وشرع في جمع الأموال بكل السبل وفرض على تلاميذ المدارس شراء زى مدرسي موحد لا تنتجه سوى مصانع يمتلكها هو شخصيا ألا أن أولياء الأمور لم يستطيعوا تحمل نفقات ذلك الزى الباهظ الثمن ولم يستطيعوا شراء الكتب المدرسية اللازمة لمواصلة التعليم والدراسة وهو ما دفع حوالي مائتي تلميذ للتظاهر الأمر الذي أفقد الإمبراطور صوابه وأمر حرسه الخاصة بالمحاصرة هؤلاء التلاميذ المتمردين واعتقالهم ..
وفى ساحة سجن بانجى حضر الإمبراطور في كامل أبهته وبيده ذلك الصولجان الذهبي الشهير وصرخ في وجه التلاميذ الصغار قائلا " لنتكونوا في حاجة لهذا الزى المدرسي من اليوم طالما بقيتم هنا في السجن " وبالفعل بقوا في السجن دون مراعاة لأعمارهم أسابيع وبعدها بدأت علميات الإعدام لهؤلاء التلاميذ واحد تلو الآخر حيث جرت المحاكمة الصورية الشهيرة بقضية "الزى المدرسي"وتعذيب الأطفال حتى الموت.
وحين أدرك العالم والفرنسيون حقيقة بوكاسا الإمبراطور المجنون ومن انه كان كائن شاذ ومسخ لمخلوق في منتهي البشاعة والتشوه الخلقي والوحشية والنزعة الى الشر وحان الوقت لوضع نهاية لهذا المجنون وجاءت الفرصة مواتيه بعد مذبحة الزى المدرسي بشهر تقريبا عندما قام بوكاسا بزيارة لليبيا وبمجرد هبوط طائرته في مطار طرابلس كان عليه أن يشرب الكأس الذى أذاقه لسلفه ديفيد داكو عندما إرغامه بعد الانقلاب العيش في المنفي بباريس وقامت فرنسا بالدور الأساسي في عملية إبدال وإحلال ديفيد داكو بطائرة فرنسية خاصة وطلب داكو تدخل القوات الفرنسية لحفظ الأمن في البلاد ومساعدته في تخليص شعب بلاده من التعذيب .
وعاد بوكاسا المخلوع الى المنفي في فرنسا الى الأبد ومع نهاية بوكاسا بدأت المهمة الصعبة للكشف عن بقايا ضحاياه وقامت فرق ابحث بعلميات تنقيب في سجن بانجى حيث عثروا على عشرات من بقايا تلاميذ المدارس الذين عذبوا حتى الموت وفي قصر الإمبراطور وجدت الفرق البحث عظام سبعة وثلاثين طفلا آخرين بالقرب من أرضية حمام السباحة الضخم ويبدو أنهم قدموا كوجبات شهية للتماسيح بوكاسا الأربعة المدللين ..
كما وجدوا ضحايا مجهولين يبدو أنهم كانوا آخر ما تم تقديمه من وجبات على مائدة الإمبراطور الذي أسرف في كل شيء وخاصة جنون العظمة وأكل لحوم البشر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق